ماء الخلود

العلم
من الأسطورة إلى الواقع .
ماء الخلود
إبن النديم ( ت : 385هـ/995م ) مؤرخ العلوم والعلماء العرب في كتابه الشهير "الفهرست"* يتحدث عن نقل الكتب القديمة إلى العربية وأن أول نقل حصل في العصر الأموي ، وبالتحديد في أيام الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (ت : 85هـ /704م )الذي استعان ببعض المترجمين والرهبان الأقباط وبما نقلوه عن اليونانية والقبطية من المخطوطات القديمة في مدرسة الإسكندرية أو ماتبقى منها ، وسبب إقبال خالد بن يزيد على الإهتمام بالكتب القديمة وبالتحديد ما يتعلق منها بالصنعة ( الكيمياء ) أو بالأحرى الخيمياء*؛ هو ما كان متداولاً في الأوساط الفلسفية واللاّهوتية عن وجود سرّ الأسرار ، وغاية المبتغى ، وهو كناية عن شيئين هما : روح المعدن أو حجر الفلاسفة وماء الخلود أو إكسير الحياة ، فروح المعدن أو حجر الفلاسفة من شأنه أن يحوّل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة ، ذهب أوفضة ، أما ماء الخلود أو إكسير الحياة فمن يحظى به ويشرب منه يطول عمره ويخلد في الحياة . فخالد بن يزيد هذا كان قد أبعد عن الخلافة رغم أن تراتبية الوراثة كانت له ، ولأسباب تتعلق بمزاياه الشخصية ، فسعى للبحث عما يغنيه وجماعته مالياً بالحصول على الثروة اللاّمحدودة من خلال حجر الفلاسفة أو روح المعادن ، وعلى ما يؤمن له البقاء الدائم في حال الإهتداء إلى ماء الحياة والخلود ، وهكذا استعان بمريانوس الراهب أو "إسطفانوس" للبحث عن هذين الهدفين ، قد يستغرب القارئ ذو الحس السليم والعقل الراجح إذا قلنا له بأن هذه الأبحاث التي قادها المحبط والعاثر الحظ خالد بن يزيد قد توصلت إلى نتائج هامة جداً ، ولكن قبل أن أخبركم بتلك النتائج سأعرض القصة الخرافية التالية المبنية على هذه الأسطورة العتيقة .
كان الملك الإسكندر ذو القرنين في قديم الزمان قد غزا العالم القديم كله ، ووصل في غزواته إلى أقصى الشرق ، ولكنه أصيب بجراح بليغة في إحدى المعارك وشعر بدنو أجله ، فدعا أمهر الأطباء وطلب إليهم قائلاً : يبدو أن ساعة الموت قد حلّت ، لكنني أرفض أن أترك هذا العالم وملكي العظيم الذي بنيته ، أريد أن أحيا وأن أحكم البلدان الواسعة التي غزوتها وبذلت الجهود الجبارة للوصول إليها ، إلى آخر الزمان أريد الحياة والتمتع بمباهج الوجود وما جنته يداي في السنوات العشر الماضية من كفاحي ، وإني آمركم بإيجاد الدواء الذي يمكنني من البقاء وإطالة حياتي إلى الأبد ، وإلاّ سيكون حتفكم قبل وفاتي .
وفكّر مجمع أحكم الحكماء وأعلم الأطباء في الأمر ملياً وتداولوا وخلصوا أخيراً إلى قرار ، وحضروا بين يدي مليكهم قائلين : ننصح قائدنا الملك الجبّار الإسكندر ذو القرنين بأن يشرب من ماء الحياة الذي يتدفق من النبع القصيّ عند طرف العالم الذي بتنا عند مشارفه ، والذي ثبت لدينا أن من يتذوق ماءه العجيب يحيا أبد الدهر .
واستمع الإسكندر إلى النصيحة ، وأمر أن يضعوه على سرج الحصان المجهز بنقالة ، وانطلقت به فرقة الخيالة الأسرع من الحرس الملكي مع الأدلاء نحو النبع المأمول .
وكان النبع السحري يقع في غابة ظليلة وباردة تسمى "عين فيء" حيث الأغصان الكثيفة لأشجارالسنديان واللزاب والقيقب والبطم تحجب النبع عن أشعة الشمس المحرقة ، أما شجيرات البربريس والعليق والعوسج فتحميه من هبوب الرياح اللافحة .
دخل الجنود مسرعين قلب الغابة فهبت الطيور الدهرية هاربة مصفقة بأجنحتها ، وتراكضت الحيوانات والهوام المعمرة متخفية في الأجمة المظلمة ، حيث وضعوا مليكهم أمام النبع المترقرق المياه كالألماس الصافي البرّاق ، وانتحوا بعيداً يتأملون الطبيعة المدهشة ويتذوقون الثمار البريّة العجيبة . وبعد أن أفاق الإسكندر ذو القرنين من غفلته تناول الدورق الملكي ، المصنوع من الذهب ، من جعبته واغترف به من ماء النبع ، وما كاد يرفع الدورق نحو شفتيه حتى ظهر أمامه شيخ عجوز نحيل ، محدودب الظهر يغطي شعره الأبيض الكثيف ما فوق كتفيه وبعض ظهره ويتدلى شارباه ولحيته حتى وسطه ، ويتدثر بأغطية جردتها السنون من كل لون ،وقال له
بصوت هادئ بعيد :
- مهلك ياولدي ، لا تتسرع ، فإنك إذا ارتشفت ماءً من هذا النبع فإنك ستبقى حيّاً إلى الأبد !!.
- رائع ، رائع ، هذا ما أريده هتف الإسكندر بصوت متعب .
- لا تستعجل يا ولدي واستمع إلى ما سأرويه لك أولاً وقبل أن تحسم قرارك !!
نحّى الإسكندر الكأس جانباً وأسدل جفنيه المتعبين فوق عينيه وقال :
- تكلّم أيها العجوز.
- يا ولدي ، لقد كنت ، أنا ، منذ ثلاثة آلاف سنة ملكاً جبّاراً لا يقف في وجهه أحد ، لقد سيطرت على كل ممالك الأرض دون استثناء ، وأخضعت لسلطاني العالم القديم قاطبة ، وكانت تيجان الملوك كلها مرمية عند قدميّ ولا واحد تجرأ على أن يرفع ناظريه في وجهي ، في ذلك الوقت بالذات عندما كنت في ذروة جبروتي وعظمتي ، قررت أن أصبح خالداً إلى الأبد ، من أجل أن أحكم شعوب الأرض وممالكها ، وأمتلك ثروات العالم وخيراته وأتنعم بها ، ووصلت إلى هذا النبع وشربت من مياهه .
ولكن ما أن مضت مائة سنة حتى أصبح إسمي ملعوناً مذموماً ، وعندما كنت أقترب من الناس كانوا ما يكادون يتعرفون على إسمي حتى يشتمونني ويبصقون في وجهي ، ويصفونني بالسارق والقاتل الجبان ، لأنني بنظرهم كنت قد زرعت الشر والفساد في الأرض ، وظلمت الناس واستعبدتهم ، تماماً كما تفعل أنت الآن .
قال الشيخ العجوز هذه الكلمات واختفى كأنه لم يكن . أما الإسكندر فقد غرق في تأملاته البعيدة وأفكاره العميقة ، ثم تناول الدورق من قربه وأخرج زقاً مصنوعاً من جلد الأيائل وملأه من مياه النبع السحري وأخفاه في جعبته ، ونادى جنوده آمراً لهم بنقله إلى وطنه .
في طريق العودة عندما كان ذو القرنين وجنوده يعبرون سهلاً مقفراً موحشاً ، شعر بالتعب والإرهاق وبمعاودة الآلام المبرحة فأمر بإيجاد مكان للإستراحة ، وقام الحراس بإنزاله من هودجه ووضعه ممدداً في ظل شجرتين من الكينا المعمرة . في هذا الوقت أحس الإسكندر بأن الموت يداهمه فأخرج الزق المملوء من ماء الحياة لكنه لم يتجرأ على شربه ، فأبعده عنه وسكبه على جذع الشجرتين حيث كانت تختبئ حية ظمأى فإرتوت منه أيضاً .
في السهل المترامي الأطراف على طريق الحرير نحو الصين ، لا زال مسافرو القوافل يستظلون تينك الشجرتين المعمرتين ، ولا زالت الأفعى الدهرية ترعبهم بفحيحها المخيف ويتكاثر نسلها كل سنة.
أما النتائج التي تمخضت عنها جهود وتجارب خالد بن يزيد الغامضة فكانت بظهور علم الكيمياء الحقيقية ، الذي أكمله جابر بن حيان في أبحاثه وأسراره والذي سيصبح من أهم العلوم العربية مع ما تفرع عنه من حرف ومهن ومواد مختلفة ، مثل السباكة والصياغة والعطور والصابون والدباغة والنسيج والعقاقير الخ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في منهج الفلسفة والحضارات

العقل المستقيل والقطيعة المعرفية