في منهج الفلسفة والحضارات

ملاحظات أولية على منهج الفلسفة والحضارات
صفحة خاصة بتعليم مادة "الفلسفة والحضارات"
ما يمكن أن يًعلّم في الفلسفة نستطيع إدراجه تحت ثلاثة عناوين أساسية هي :
أ- السياق التاريخي
أو ما هو معروف بتاريخ الفلسفة ، فعدد كبير من الباحثين والفلاسفة يرون بأن الفلسفة ليست شيئاً سوى تاريخها .
ب- أعلامها
أو الحكماء والعلماء والفلاسفة الأعلام الذين كان لهم دور بارز ومميز في بناء هذا الصرح الفلسفي الشامل وإرساء قواعد هذا التاريخ العام للفلسفة .
ج- مسائلها ومعاجمها
، وهي من الاتساع والتنوع والغنى بحيث يستحيل التعرف عليها والإحاطة بها ولو بصورة جزئية ، من خلال سنوات دراسية قليلة وبعدد محدود من الحصص التدريسية ، كما هو حاصل عندنا في التعليم الثانوي مثلاً ، وبمقررات تتضمن النذر اليسير من الفلسفة . أما ما يمكن وما يجب أن يتضمنه المنهج من الموضوعات ، كمواد دراسية ، ضمن إطار هذه العناوين الثلاث فهو ما يدخل في صلب الاستراتيجية التربوية ، والخطة العامة للتعليم ، وهي وظيفة مراكز الأبحاث واللجان وذوي الاختصاص في شؤون السياسات التربوية والتعليمية . وبما أنه من العسير الإحاطة بكل جوانب المنهج والكتب المقررة له ، ووضع الملاحظات النقدية عليها جميعاً في عجالات ومقالات محدودة ، خاصة وأن لمادة الفلسفة والحضارات والفلسفة العامة والفلسفة العربية خمس كتب للسنوات المنهجية : الثانية الثانوية بفرعيها الآداب - إنسانيات والعلوم ، والثالثة الثانوية بفروعها الأربع : الآداب - إنسانيات والاجتماع - إقتصاد والعلوم العامة وعلوم الحياة . لذلك سأقتصر في ملاحظاتي الأولية هذه على ما عاينته ولاحظته من خلال تعاطيّ مع الموضوع ، وبشكل محدود مع السنة الثانية الثانوية بفرعيها ، والثالثة الثانوية العلوم والإجتماع – اقتصاد ، فهذه الفروع الأخيرة تستخدم مقرراً شبه مشترك. إن تعليم مادة الفلسفة مسألة حساسة و صعبة ، لا كما يتصورها البعض خطأ بأنها مسألة بسيطة وكلام على كلام ، إذ أن تدريس المادة مفترض به أن يراعي الواقع الإجتماعي والثقافي للبيئة المحلية المحيطة إلىجانب نوع من السياق المنهجي المترابط ، كما يتطلب نوعاً من التسلسل المنطقي الدقيق ؛ ويمكن لهذا السياق المتسلسل باعتقادي أن يكون : * إما وفق الموضوعات المختارة كمحطات رئيسية أو مفصلية في الفكر الفلسفي ، * أو وفق الموضوعات في تسلسلها التاريخي كنقلات نوعية في الفكر الإنساني ، *أو وفق الموضوعات بالعلاقة مع الأماكن والأمصار والأزمنة كمعالم حضارية مميزة ، *أو وفق الموضوعات إرتباطاً بالأعلام ، وهنا أيضاً لابد من شيء من السياق التاريخي ، إن العرض المنهجي المتناسق والمترابط للمادة يسهل كثيراً في عملية استيعابها وفهمها ورسوخها في الأذهان ، لأن العقل الإنساني يعمل وفق نظام منطقي محكم ومترابط ، وليس بطريقة عشوائية ؛ وفي كل الأحوال لابد من وجود فكرة عامة أو إشكالية تحكم اي من الخيارات التي يجب أن تعتمد ، وقوام هذه الإشكالية الأسئلة التالية : إلام نريد الوصول بالتلميذ من خلال تعليم هذه المادة ؟ مزيد من العقلانية ! ، أم مزيد من الواقعية والموضوعية !، أم المزيد من الروحانية واللاّمعقولية القلبية ! أم إبقاء القديم على قدمه والتقليد على حاله !؟،أم توليفة توفيقية من كل هذا وذاك ترضي الجميع ولا تزعج أحداً ؟. وبما أنني من المعنيين بالجواب فإنني أعتقد بأن المسعى يجب أن يكون باتجاه المزيد من حرية الفكر والنظر، وفتح النوافذ أمام العقل الفردي والجمعي للخروج من قيوده إن استطاع إلى ذلك سبيلاً . هل يراعي الكتاب الرسمي المقرر للمادة تسلسلاً منهجياً معيناً ؟ ، هل يتبع الموضوعات ؟، أم التاريخ ؟ أو الأعلام ؟؛ أم شيئاً مزدوجاً من هذا وذاك ؟ ام توليفاً مختلطاً بين الموضوعات والأعلام والسياق التاريخي والإطار الجغرافي الحضاري ؟.
التمهيد: بين الإنسان والفلسفة وعلم النفس
ما كان منهج الفلسفة والحضارات للسنة الثانية الثانوية يركز الإهتمام على الحضارات القديمة أو على فلسفة الحضارات ، وتطور تلك الحضارات في كافة الجوانب : المادية منها والروحية ، وتطور الفكر والمعارف والعلوم ، ونمو القيم والمعتقدات والفنون ، وظهور اللغات والأبجديات ؛ فإن هذا المنهج في السنة الثالثة الثانوية بكافة فروعها يركز وبشكل مكثف على الإنسان المتحضر في العصر الحديث ، وهو ما يسمى بالفلسفة العامة أو الفلسفة وعلم النفس وهو إلى علم النفس أقرب ، ويتركز البحث في هذا المجال على الإنسان الفرد كذات مستقلة وحرة وفريدة ، وككائن حي من جهة وبكونه كائن واع ومفكر من جهة ثانية ، وبكونه إجتماعي متطور وأخلاقي مبدع وفاعل من جهة أخرى . لذلك فإن محاور الدراسة تتركز على ثلاثة عناوين او حقول :
أ_ الإنسان :
كنفس حية ووعي وميول ورغبات وغرائز ، وابعاد عقلية وإدراكية في إمتداد المكان وصيرورة الزمان : الحساسية والتذكر والتوهم والحلم والخيال إضافة إلى النطق واللغة .
ب _ المعرفة :
كالتقدم المعرفي وتقدم الخبرات والتقنيات والعلوم ، والبنيات التجريدية والنظرية والفلسفية ومناهج العلوم المختلفة في تطورها ومشكلاتها .
ج _ الأخلاق :
مثابة القيم السامية والمبادئ العامة وغايات الإنسان وتطلعاته القريبة والبعيدة ، ومشكلات الخير والشر، والسعادة والفضيلة في الوجود ، والمطامح الأصيلة أو الطبائع الجوهرية لهذا المخلوق المتفرد بالعقل والإدراك والمميز بقدرته على المبادرة ، وبتدبيره لشؤون الحياة اليومية بفهم وروية . وفي هذا المجال تندرج عناوين الفلسفة العملية : كالقيم والضمير والحرية والمسؤولية والقانون والخير والسعادة والعمل والأسرة الخ. إذن نحن في السنة الثالثة الثانوية نعالج موضوعات فلسفية إرتباطاً بالإنسان ، بما هو جسد مادي يولد ويغتذي وينمو ، ويتكاثر ويفنى ، ويتحرك وينشط ، ينفعل ويتفاعل ، يؤثر ويتأثر بالواقع والمحيط الخارجي الطبيعي والإجتماعي ، وما يرتبط بذلك من نظريات وآراء ودراسات وأبحاث فلسفية ، وبما هو كيان مادي وروحي يحس ويدرك ويعقل ، ويتأمل حاضره ويفسر وجوده ، ويحيا واقعه ، ويخطط لأفعاله وينفذ ما يرسمه في مخيلته بوعي وروية ، ويكدس ويراكم خبرته ومعارفه فينشئ العلوم ،ويتذكر الماضي ويتخيل المستقبل ، فيؤسس المشاريع ويبدع الفنون ، وبما هو كائن ثنائي الحضور: جسد ونفس روحانية ، ينظم ويدير حياته بحكمة وروية وتعقل ، فيضع الحدود والأنظمة والقيم ، والقوانين ويؤمن بالعقائد السامية والمبادئ الخيرة ، فيميز الخيرمن الشر ، والصالح من الفاسد والمفيد من الضار . بناءً على هذا فإن المطلوب الوصول إليه من خلال الدروس وهذا المقرر هو اكتساب مجموعة من المؤهلات والملكات والكفايات ضمن ثلاثة عناوين أساسية مع ما يترتب عليها من خلاصات :
#أولاً : إكتساب المفاهيم والمصطلحات والأدوات اللغوية الفلسفية ،
إذ إن للفلسفة والفلاسفة معجمية مخصوصة ومميزة من المفاهيم والتعابير والمصطلحات المستخدمة في البحث ، مثلها مثل بقية المعارف والعلوم ، فلكل مجال معرفي ولكل قطاع ثقافي وكما لكل علم من العلوم مجموعة من العناصر المفهومية ، والمعجمية الإصطلاحية الخاصة ، من كلمات وتعابير واشتقاقات ومنحوتات لغوية وعبارات دخيلة للتفسير والتوضيح ؛ وتمتاز الفلسفة بدقة التحديدات ، واستخدام أدوات العقل والفكر المنطقية بصرامة وبحزم ووضوح زائد ، حتى أن معظم الفلاسفة المعاصرين يعتقدون أن إحدى أهم وظائف الفلسفة اليوم هي وظيفة تفسير وتوضيح المفاهيم وإنتاج المصطلحات الجديدة . فمن البديهي أن يكون على دارس الفلسفة إتقان أدوات وتسميات المدارس الفلسفية ومسائلها والتمتع بقدرة التفسير والتوضيح والشرح في مجال المفاهيم والمصطلحات والموضوعات الفلسفية ، فالقدرة على الإنتاج الفلسفي هي إلى حد كبير تلك القدرة على استخدام الوسائل والأدوات الفلسفية ، والقدرة على امتلاك التعريفات والتحديدات وشرحها وتفسيرها ونقدها فتلك هي عدة الإنتاج الفلسفية .
# ثانياً : معالجة الموضوعات الفلسفية ؛
وموضوعات الفلسفة ليست من النوع الجزئي أوالتفصيلي كما هي موضوعات العلوم التجريبية وعلوم المادة ، حتى تستقطب إجماعاً وتلاقي وحدة في الرؤية والموقف حولها ، إنما هي - الموضوعات الفلسفية - من النوع الشمولي والعمومي المرتبط بالإنسان غالباً ؛ تطلعات الإنسان وهمومه ، نفسه ومصيره ؛ وكل ما يثير حيرته ودهشته في هذا الوجود ، وفي كل زمان ومكان ، لذلك فإن القدرة على معالجة الموضوع الفلسفي تتطلب تأملاً وبراعة تمكنان من الغوص في أعماق المسائل الإنسانية والوجودية ، وعدم الوقوف والتلهي بالقشور السطحية ، والمظاهر الخارجية العابرة ، إذ المطلوب هو البحث عن الأسباب والغايات البعيدة والمعاني العميقة ؛ وهي قدرة على التحليل والتركيب والبناء الفكري ، المعتمد على العقل والملتزم حدود المنطق ، المتسم بالدقة والوضوح ؛ ولذلك تتطلب هذه الملكة والمهارة إلماماً أيضاً بالآراء المختلفة والإشكاليات التي طرحت حول الموضوع ، لعدد من الفلاسفة والعلماء والمختصين في الحقل أوالمجال الذي يتناوله الموضوع ؛ إلى جانب امتلاك الأدوات والوسائل المناسبة من تعريفات ومصطلحات ومفاهيم وشروحات ، وبراعة لغوية وإنشائية تساعد على بيان المعالجة ووضوحها . إن معالجة الموضوع الفلسفي إذاً ، هي نوع من العرض والمحاكمة النقدية للآراء المطروحة حول الموضوع المعين ، وتبيان نقاط القوة والضعف في المعالجات السابقة ، بهدف الوصول إلى خلاصة ما ، أو فتح الآفاق نحو إشكاليات جديدة . لايوجد إجماع في المسائل والموضوعات الفلسفية كما سبقت الإشارة ، لذلك عند معالجة الموضوع الفلسفي ، ليس المطلوب إبداء الإعجاب والتأييد الشخصي ، أو العكس أي الرفض والإدانة ، إنما المعاجة الموضوعية والواقعية إستناداً إلى ما قيل في هذا الموضوع ، مع الإلتزام قدر الإمكان بالحياد والدقة ، والبعد عن الآراء الشخصية وعن تأثيرات الأهواء الذاتية والميول والمصالح الظرفية ، فمعالجة الموضوعات الفلسفية هي مقدمات ضرورية لإبداع وإنشاء النص الفلسفي المتميز وفي الفلسفة غالباً ما يكون النص الفلسفي ضرباً من مناقشة لآراء وأفكار ونظريات الفلاسفة الآخرين في الموضوع المطروح للبحث . والموضوعات الفلسفية عموماً هي آراء ونظريات تتناول غالباً الإنسان ككائن حي مادي (جسد) وروحي (نفس) أو الإنسان ككائن حي ، مادي وروحي بعلاقته بالوجود ، واقع في الوجود ، أو بصفته كائن مادي وروحي موجود ومدرك لوجوده ، ومدرك أنه مدرك لوجوده ومدرك أو واع ٍ أنه موجود في الوجود ، ووجوده قد يكون ضرورة أو صدفة ، مؤقتاً أو خالداً ، خيراً أو شراً ؛ أو الإنسان ككائن مدرك وواعٍ وعاقل وفاعل ومنظم لذاته وللموجودات ؛ وباختصار : الإنسان كذات عارفة ، عاقلة ، أخلاقية ، وفاعلة ، ومتجاوزة لوجودها الذاتي نحو المطلق .
# ثالثاً : تحليل النص الفلسفي ؛
وهي مهارة وتقنة تتطلب براعة وملكات كثيرة ، وقدرة على الفهم المعمق ، والتحليل والتركيب كما في معالجة الموضوع ، وعلى الرغم من أن النص يتضمن أفكاره ويحمل قضاياه وإشكالياته ، ومع ذلك فتحليله بتطلب امتلاك الأدوات والمؤهلات النظرية والمفهومية ، واكتساب مهارة في المقارنة والمقابلة والنقد ، وقدرة على التأويل واستخراج المعاني الكامنة خلف السطور ، أو كما يقول البعض استنطاق صاحب النص الغائب ، واستخلاص النتائج بعد تفكيك النص إلى عناصره ومكوناته الأساسية . (راجع تقنية تحليل النص في الملحق ) ، وخلاصة ذلك الوصول إلى امتلاك إمكانية النقد ، والشك ، وحرية العقل . والنقد المقصود هنا ليس الرفض السلبي والهدام ، بل النقد المنهجي بهدف إظهار أماكن القوة والضعف في النص أو الموضوع المطروح ، إستناداً إلى دراسة آراء ونظريات مختلفة ، وذلك أيضاً بهدف التقدم في البحث إلى الأمام . وكل ذلك قد لا يحصل إن لم ندخل عامل الشك في ما يصل إلينا من أفكار وآراء ونظريات ونصوص أو أقوال ؛ والشك المقصود هنا أيضاً ليس الوقوع في الريب وضياع الثقة والتوازن العقلي ، أو أن نصبح ضحايا فقدان اليقين وفريسة للأوهام والقلق أواللاأدرية أو الإضطراب النفسي والعقلي ؛ بل المقصود بالشك هنا هو تحكيم العقل في كل ما يصل إلينا من قضايا ، وعدم قبول كل ما نتلقاه تلقائياً ، على أنه حقائق ، قبل التثبت منه ، عن طريق عرضه على حاكم العقل والمنطق ، ومن خلال التأكد من مراعاته الشروط الموضوعية ( بالإختبار والتثبت إذا أمكن ) ، وأن نشرّحه تحليلاً وتركيباً ؛ وأن لانطمئن إلى رأي أو إلى مبدأ إأو مذهب فلسفي ، ومهما علا شأنه ، وصل إلينا بالتقليد والنقل المتواتر أو من الرأي العام والعادة والعرف ، أو من التقليد الموروث من الواقع الإجتماعي أو الثقافي وحتى العلمي إلخ . قبل أن نمحّصه وندقق فيه ونتمعنه فكرياً وبحرية تامة . فالشك بهذا المعنى يصبح طريق اليقين ؛ كما أشار أسلافنا من العلماء والفلاسفة مراراً ، كإبن الهيثم والغزالي وديكارت .
( للبحث صلة )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العقل المستقيل والقطيعة المعرفية