الكرة الأرضية في إجازة قسرية
تتحفنا الطبيعة بين الفينة والأخرى بكل ما هو جديد، وتصدمنا بما هو طارئ نادر الحدوث، على شكل ظاهرة فريدة خارقة، أو كارثة طبيعية هائلة، وذلك هو ما يجعل منّا نحن سكان هذه الكرة من الكون مذهولين مدهوشين، ومربكين هلعين، أسرى للحيرة ومرمى للشك والظنون؛ وهو كذلك ما ينبهنا من غفلتنا، ويهز سكوننا ويكسر خمولنا وكسلنا، ويكشف استسلامنا لرتابة الحياة اليومية وانقيادنا مع مسرى معطيات الواقع الروتينية، ويعرقل انسياقنا مع بلادة القواعد العادية والمتكررة، وهذا ما يفتح عيوننا وأذهاننا على تحديات ومصاعب لم تكن في دائرة التفكير قبلاً، ولا في مجال التأمل والحسبان، فيحل القلق، وتقع البلبلة  مكان الاستقرار، ويسود الخوف مكان الراحة، والتردد مكان الوثوق؛ فكأنه لا يوجد أمان ولا اطمئنان لما تخبئه لنا الطبيعة والحياة من صروف الأيام ومفاجآت الزمان، وكأنه لا صدق نهائي لما أبدته وتبديه معارفنا ومعطيات وعينا وتوقعات علومنا الماضية والحاضرة، كما لا يمكن الركون التام إلى ما اظهرته لنا هذه الطبيعة  من أسرار قوانينها حتى الآن، وما ضمنته منظومة الثوابت القائمة في المعرفة والفكر، وأيدته قواعد العقل والمنطق. أوليس هذا ما خلفته فينا مستجدات الأشهر الستة الماضية منذ برزت ظاهرة الوباء المستجد كورونا "كوفيد- 19"؟. والذي لم تكتمل فصول اجتياحه الدرامي للعالم بعد؟.
لم أجد ما هو التفسير الممكن للتوافق الصدفي بين عظمة الملوك ورمزية التيجان والصراعات الطاحنة التي دارت عليها عبر التاريخ ، وما سببته من حروب وغزوات وما أثارته من دسائس ومجازر دامية للوصول إليها، ومن أهوال للاحتفاظ بها أو للإستيلاء عليها، غير  الترادف في التسمية مع غازينا الرهيب الجديد المسمى بالفيروس التاجي؟
(corona - coronne) وهل من تفسير لهذا التوافق غير الشكل الخارجي لهذا الضيف الثقيل القاتل؟.
ومما يجدر التنويه به أننا تعاطينا ونتعاطى مع هذا الغازي، هذا الجائح العدواني، التاجي الخطير، بكثير من المهابة والرهبة، بل قل بكثير من الخضوع والانصياع تجنباً لبطشه وفتكه بنا، بما يشبه الركوع أمام جبروت وهيبة الملوك والأباطرة والقياصرة وتيجانها، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على أن الناس مهما علا شأنهم ومهما عظمت مراتبهم وتعاظمت كياناتهم فإن بطش الأقوياء والجبابرة بهم، سواء الجبابرة الغامضين منهم  أوالمشهورين البارزين، هو الرادع الذي يجعل من هؤلاء الناس صالحين أتقياء ملتزمين الانصياع لأوامر أهل السلطات مذلولين أمامهم، وعبيداً صاغرين في مواجهتهم وطائعين للقواعد والقوانين من شرائعهم؛ والمرجّح أن تكون الغريزة الأصل في الحفاظ على الحياة وحب البقاء في مواجهة الموت هي التي تتحكم بردات فعلنا هذه أمام مثل هذه التحديات الرهيبة والكوارث الداهمة.
علمتني خبرتي في الحياة أن مقولة فلان "لا يهاب الموت" هي دعاية خرقاء، وأنه لا يوجد أي كائن حيّ لا يتملكه الخوف من الموت ولايسيّره حب الحياة، ويتساوى في هذا المجال الأبطال والشجعان مع الجبناء الرعاديد، من العظماء في سيرتهم إلى المغمورين في سراديب ومستنقعات الحياة، من أعلى مراتب الحياة المتمثلة بالأحياء المدرِكة والعاقلة إلى أدنى أشكال هذه الحياة والذي تمثل المايكروبات والباكتيريا والفايروسات من الجرائيم والخمائر أبسط أشكالها ويمثل كورونا نموذجاً لها في تكاثره وانتشاره وانتقاله الذاتي الوبائي، فهذا القانون يسيطر ويحكم عالم الأحياء، فإن كل حيّ ينحو إلى حفظ وجوده وإكثار شبيهه من نسله، وهو قانون صارم وقاسي وشامل لا يقف في وجهه عائق ولا تحبسه سدودولا حواجز.
 لذلك نحن عندما نستعيد اليوم ما جرى، ونتأمل في ما حلّ بنا و بالبشرية حولنا، نجد أنفسنا عاجزين عن الجزم  في تحليل النتائج الحاصلة أو تلك المرتقبة ، المترتبة على ظاهرة فيروس كورونا-19؛ غير الإحصاءات لأعداد الملايين من المصابين ومئات الألوف من الضحايا أو المتعافين في عدّاد لم تهدأ حركته بعد، يرافقه السباق المحموم لإنتاج لقاح ناجع له،  كما لا يمكننا الجزم حول طبيعة النتائج التي سببها هذا الوباء، هل كانت رذيلة أم فضيلة أم فضيحة ؟، ضارة أم نافعة ؟ مفيدة أم فاسدة؟ فأين ذهب واختفى ضجيج الحياة ؟ وصخب المدن وتدفق نهر البشرية الهادر؟
 أين ذهبت زحمة الطرق والمطارات والمرافئ البحرية والنهرية؟ أين ضجيج الملاعب والنوادي والملاهي والشواطئ؟ وكيف خفت نبض الحياة على هذه البقعة الفريدة من الكون؟
 لقد ضرب الفايروس التاجي ضربته  فخنق أنفاس الناس وكمّ أفواههم وحطم طموحات مشاريعهم  وشل حيويتهم وأشغالهم، وخلّف آثاراً واضحة و حفر خدوشاً عميقة على جبهة البشرية قد لا تندمل ندوبها في وقت قريب.
فمن الإيجابيات الجلية لجائحة هذا الفيروس المستجد الخطير، وغزوة هذا الكائن الغريب العجيب، أنها أصابت مراكز حساسة وأصلية من ثوابت أفكارنا ومعرفتنا وطاولت حتى يقينيات عقائدنا ومسلمات مقدساتنا، فزلزلتها وعصفت بها، كإعصار حل بسكينة جريانها، من غير أية اعتبارات لموازين القوى العالمية، ولا أي مراعاة للقوى العظمى أو الصغرى، ولا احترام لأي اصطفافات عالمية ومراتب دولية، ومن غير اي احترام لمناطق النفوذ والسيطرة، أممية كانت أم قومية أو سياسية واجتماعية أو عسكرية. فبدت كل القوى سواء، الجبارة منها والهزيلة ، المقدرة أم المهمشة، تقف عاجزة مذهولة، بل مكبلة حائرة أمام عدو خفي يدخل من حيث لا ندري ولا نتوقع،     
 ولم تقتصر أضرار هذا الوباء على الضحايا البشرية بل تعدتها إلى بُنى إجتماعية أخرى فجعلت صورة العالم سوريالية مأساوية، فمن أبرز ما تراجع صيته وشهرته هو موضوع الإرهاب على الرغم من أن كورونا يفترض أن يفتح عيون العالم على خطر إرهاب أخطر وأدهى من المعهود بافتراض أن يقوم طاغية من الحكام الفرديين المسكونين بجنون الإجرام بتصنيع كورونا كسلاح بيولوجي وأن يقوم باستخدامه ضد شعبه أو ضد أعداء مفترضين من شعوب أخرى؛ وهذا ما يرتب على الإنسانية جمعاء وفي مقدمها العالم الحر مسؤوليات جسيمة حيال التغاضي عن بقاء حكام ورؤساء وساسة مهووسين بجنون العظمة، يتحكمون بدول وشعوب مغلوبة على أمرها ومحرومة من حقوقها في العيش وحرية الرأي والتعبير والمعتقد والعيش الكريم.
ومن أبرز القضايا التي طالها الفيروس الخطير هي المعتقدات والثوابت الإيمانية كالقضاء والقدر، والمقامات والكراماتواهل الشفاعات والحراسة، وكل أشكال وألوان السحر والتنجيم وأثر الأرواح المفارقة للوجود المادي روحانية كانت أم شيطانية، أُنسية أم جنية؛ وما ينسب إليها من آثار عجائبية خارقة في شفاء كل عاهة أو مرض، وتبخر الطب المقدس التاريخي قديمه ومستحدثه فثبت بالتجربة بطلانه وتهافته.
أما مسألة التقارب الإجتماعي والتجمعات التي تعتبر مكوناً أصيلاً في العلاقات المتبادلة بين البشر وميزة خاصة للكائنات العاقلة وتشكل أساس العادات والتقاليد والفنون والتراث والقيم والإحتفالات الشعبية  في الواجبات والمناسبات العامة والخاصة كلها تعرضت لانتكاسة وخلخلة عميقة قد تظهر نتائجها تباعاً في المدى غير المنظور.
كما أن الثروات والأموال والرساميل، كبيرها وصغيرها، والعصبيات والأعراق أصيلها ووضيعها، الزعامات والقيادات من ملوك ورؤساء وقادة أحزاب وجمعيات ونقابات ونوادي، كل تلك البنى والهيئات وقفت عاجزة لا حيلة لها ولا قدرة أمام الضيف الخطير الفايروس (كوفيد- 19)
عيسى الحجيري – مختص بشؤون الفلسفة والعلوم الإنسانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في منهج الفلسفة والحضارات

العقل المستقيل والقطيعة المعرفية