العقود الأخيرة من القرن العشرين

العقود الأخيرة من القرن العشرين
حفلت العقود الأخيرة من القرن العشرين المنصرم بكم هائل من المسائل والإشكاليات ، وبحشد كبير من الأسئلة ذات المضامين والأبعاد المتنوعة والمستجدة ، وهي مسائل وإشكاليات طاولت في أبعادها وعمقها كافة جوانب الحياة البشرية في الفكر والمعرفة والعلوم والثقافة وفي التاريخ والحضارة ، كما في الحياة العملية اليومية ، فمن الإنسان الفرد كشخص متميز و"أنا" أو ذات منفردة ومستقلة ، إلى كونه عنصر فاعل في النسيج الاجتماعي ، ككائن مدرك وواع وصانع لقدره وذاته وتاريخه ، إلى كونه عامل ومستهلك ، إلى المصير الذاتي والجمعي في إطار التوليف الاجتماعي المعاصر والمندرج تحت عناوين ومسميات الحداثة والمعاصرة وما بعد الحداثة ثم العالمية ، أوالعولمة أوالكونية والكوكبية ، وفي هذا السياق انطرحت مشكلات الهوية الفردية والجمعية ، واجتماع وسياسة الأفراد والجماعات العرقية والثقافية . كما أن المسائل الاعتقادية والدينية ومسائل القيم والأخلاق أصبحت موضع مراجعة ، كذلك برزت بحدة مشكلة الانتماءات وحدود السيادات في إطار الكيانات والدول وفي مجالات الاجتماع والاقتصاد ، وفي حدود السياسة والعلاقات بين الدول ، وبين الأقاليم والقارات ، وحتى على المستوى الكوكبي والكوني كالعلاقات بين الأقوام والأعراق والأمم والحضارات العريقة
منها والحديثة التكوين . وباختصار تكوّن شعور عام بحلول مرحلة جديدة من النقد وإعادة النظر ، من غاياتها الوصول لوضع ترسيمة جديدة عقلانية ممكنة وواعية للمستقبل ، وظهر المشهد العالمي منذ تسعينيات القرن الماضي وكأنه يتعرض لزلزال عنيف و يتعرض معه كل التكوين المعهود والمقرر ذهنياً وعقلياً للارتجاج والحراك ، وما كان متفق على أنه مفهوم ومدرك وجلي واضح في الآنيّ وفي المستقبل ، بدا وكأنه ينسال في أفق ضبابي متسارع ، ومن البديهي أن يكون قسم أساسي مما تثيره هذه القضايا هو من نوع الأسئلة ذات البعد الثقافي-الحضاري ، وذات الطابع الفلسفي بامتياز.
الكرنفال الليبرالي.
هذه الأسئلة والإشكاليات طرحت نفسها بالترافق مع موجة صاخبة من الترويج والضخ الإعلامي والإعلاني المشبع بالإثارة والمنمق بكافة ألوان الأطياف الزهرية والنرجسية البراقة ، والموشّى بالصور الخيالية المثيرة للغرائز والأحلام والرغبات والميول ، الواعية منها وغير الواعية ، وهو ما أضفى على المشهد العام للموجة صفة الحرب النفسية ، على الرغم من أن الوقائع كانت كلها تؤشر على غزو أيديولوجي لا هوادة فيه ، كما أن التمهيد لهذا الهجوم الشامل والمتصاعد قد أوجد التبريرات والحجج لذاته بالاعتماد على النهوض التقني-الصناعي والتجدد الذي أضفاه النظام الرأسمالي على نفسه عبر توسعه وتمدده من خلال عولمة الرساميل وفتح الأسواق ، ومن خلال تركز الثروات وامتلاك عناصر القوة والنفوذ العسكري ، وإنتاج المثال والنموذج الجذاب والمستند إلى التطورات الثورية العلمية الهائلة والشاملة وخاصة في مجالات الاتصالات والمواصلات ، والمعلوماتية والفيزياء الدقيقة ، وعلوم الأحياء والذكاء الصناعي وكافة صنوف المواد الاستهلاكية والترفيهية ، فلقد قدمت إلى البشرية المقبلة على القرن الجديد جملة من والوعود الحوافز ، والأمنيات والآمال في القضايا المستقبلية ؛ التي طالما نادى بها رواد الإصلاح والتنوير والتغيير من الحكماء والفلاسفة والمبشرين الدينيين والاجتماعيين والإنسانيين ؛ وعرضت هذه المسائل نظرياً وفكرياً حيناً ، وعملياً تنفيذياً كمشاريع للتطبيق في أحيان كثيرة . ولعل أهم ما أمد هذه الأمنيات والآمال بعناصر القوة والنفوذ وغذاها ، هو ما تتمتع به وتستند إليه من تطلعات جوهرية عميقة في الإنسان ، الفرد والجماعة ، وما تختزنه من القيم والمثل الأصيلة في النفس البشرية .
جمود في الإشتراكية وتجدد رأسمالي .
إضافة إلى ماتقدّم فإن جزءاً هاماً من المطالب والتقديمات والضمانات الاجتماعية والمعاشية والإصلاحات السياسية التي كانت قد نادت بها الحركة العمالية وحلفائها في البلدان الرأسمالية إبان النهضة الصناعية في القرن التاسع عشر ؛ قد تم الأخذ بها وتطبيقها بنسب متفاوتة داخل تلك البلدان ، اعتماداً على المقدرات من الموارد والثروات الهائلة الذاتية منها في تلك البلدان ، أو التي أمنتها لها عمليات الغزو والنهب الإستعمارية المسلحة وغير المسلحة في مختلف القارات ؛ وخصوصاً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية ، مما أسهم في رخائها ورفاهية شعوبها )أي البلدان الرأسمالية والصناعية من العالم الأول وفق التصنيفات المتداولة ) ، وضيّق هامش الأفضليات والمميزات التي تمتعت بها البلدان التي كانت قد أنجزت الثورات الإشتراكية ، والتي انضوت تحت لواء المنظومة الإشتراكية بعد أن بنت اقتصاداتها ، ثم ثبتت حضورها ووجودها عقب الحرب العالمية الثانية . فظهر على أثرها الصراع العنيف تحت مسمىّ ما عرف بالحرب الباردة ؛ ذلك النوع من الصراع الذي استمر حتى بداية العقد الأخير من القرن الماضي .
الفردوس الموعود مكرراً .
ما هي أهم هذه المسائل الإشكالية التي ادعى منظرو ومبشرو القرن الجديد أنهم وجدوا المفاتيح والحلول السحرية لها ؟! إنها مجموعة القيم والمبادئ العامة والمفاهيم والمصطلحات التي صنفت بأنها الأهداف والغايات السامية ذات الطابع الإنساني والشموليّ العام ، والثوابت الأصيلة ، كمثل عليا تتجاوز الآني والمباشر في الزمان والمكان ، وعلى رأسها مثل : الحرية والعدالة ، المساواة والسلام ، الديموقراطية ، التطورالحر، حقوق الإنسانالأساسية ، التنمية ، المشاركة ، العلانية والشفافية ، والقضاء على مظاهر التخلف والبدائية ، عبر القضاء على آفات الجوع والمرض والجهل ، حق تقرير المصيروتمتع كل شعب وكل أمة بالسيادة على أرضها ومواردها وثرواتها ...الخ . والحق يقال في أن هذه القيم والمبادئ والطموحات لم تكن نتاج حقبة محددة بعينها ، ولا صياغة أمة أو شعب أو جماعة ولا حتى حضارة بمفردها ، بل كانت خلاصة تطور تاريخي وحضاري إنسانيين ، ومحصلة الجهد العقلي ، النظري والعملي للإنسان بوجه عام بوصفه كائن عاقل واجتماعي وعامل ، على مدى قرون وقرون . وقد زفت هذه المقولات والمفاهيم والشعارات إلى مختلف شعوب الأرض على أنها الخيار الأخير للرأسمالية الجديدة والملاذ النهائي لليبرالية القرن الحادي والعشرين المقبل ، الذي سيجلب السعادة والهناء للإنسانية قاطبة ، ( نذكر في هذا السياق نبوءات فوكوياما ، وترسيمات هانتنغتون حول القرن الجديد ) وكأن الإنسانية الجديدة أصبحت على قاب قوسين أو أدنى من تحقق الحلم الطوباوي الذي راود مخيلة مؤسس الفلسفة الغربية الحديثة رينيه ديكارت بأن يصبح الإنسان مهندس الطبيعة وسيدها ، كما سيد نفسه ومصيره حسب مؤسسي الإشتراكية وروادها ، هذه الإنسانية المتعبة والمرهقة من جراء الحروب الكونية والمحلية ومن مآسي النزاعات والصراعات الدامية والمرعبة ، إذ كان القرن العشرين المنصرم عصراً مميزاً في دمويته ومجازره من البشر بعضهم على بعض ، من حيث أعداد الضحايا والمشوهين والمشردين والمنكوبين والمعرضين للإمتهان والتعذيب ، ومن حيث أعداد المشتركين في ارتكاب وتلقي هذه الأعمال ، من الجنود والعساكر والتشكيلات العسكرية وشبه العسكرية والمدنية ، وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى أنه لم تسلم منطقة واحدة على الكرة الأرضية من التعرض لهذا الشكل أوذاك من أشكال القتال أو العنف .
الإستعراض .
هذا الاحتفاء الصاخب المدوي ، المتخذ من الشعارات الإنسانية المذكورة آنفاً لبوساً له ، لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ زهوة انتصار الليبرالية والرأسمالية بطورهما الجديد في الحرب المستمرة مع الإشتراكية منذ مطالع القرن ؛ وتحديداً منذ قيام الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا وتأسيس الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية فيما بعد ، وهو ما كان يدرج على تسميته بالحرب الباردة ، وجاء كم هائل من الدراسات والكتابات والتأويلات ضمن سياق القراءة والتفسير والتنظير لما حصل بعد سقوط جدار برلين ، وهي الحالة الرمزية التي أمسك بها أرباب النظام الراسمالي في طوره الجديد الموسوم بالعولمة أو الكوكبية ، ليجعلوا منها محطة ومؤشراً لبزوغ عالم جديد ، ونحن نعلم أن مثل هذه المحطات - المعالم عديدة في تاريخ الإنسانية مثل سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح ، أو اكتشاف العالم الجديد - أمريكا أو الدوران حول رأس الرجاء الصالح ، أونظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض حول الشمس أو سقوط سجن الباستيل إبان الثورة الفرنسية ، أو الثورة البلشفية ، أو سقوط برلين في ايدي الحلفاء الخ . وكنا نحن اللبنانيين قد اعتبرنا أن احتلال بيروت على يد القوات الغازية الصهيونية - الإسرائيلية عام 1982 قد مثل محطة ورمزاً لسقوط أول عاصمة عربية في عملية الغزو الاستعماري الصهيوني الجديد في المشرق العربي ، وها هي بغداد تلي بيروت في تعرضها للغزو والسيطرة الاستعمارية والصهيونية الجديدة . والملفت للنظر ومايدعو إلى التأمل أن أرباب النظام الرأسمالي في طوره الجديد يركزون كثيراً على هذه الرمزيات الحدثيّة ويجعلون منها لوازم تكرارية في خطابهم السياسي ، وتفوقهم الإعلامي وتحريضهم الأيديولوجي .
تهافت الليبرالية الجديدة وبؤس تنائجها.
طرحت الحرب على العراق ومدى شرعية هذه الحرب الإشكالية القديمة – المتجددة : ما هي الحرب العادلة والحرب غير العادلة ؟ ، وهي مسألة إنسانية وتاريخية - حضارية بامتياز؛ يطال بحثها نقد العقلانية والأخلاق ، والضمير والقيم ، والقوانين والحقوق ؛ وكنا اعتقدنا أو ظننا بأنها مسائل قد تقاربت الرؤى حولها ، وتكرست قواعد أساسية نظرية وعملية ترعاها ، منذ ما طرحها بيكون وهوبز ومل وليبنتز وسبينوزا وكانط ، ومفكرو الثورة الفرنسية ، والمنظرون الإشتراكيون والإصلاحيون (روسو ، سان سيمون ، ماركس ، لينين الخ .) وتوهمنا بأن القرن العشرين قد ثبّت مبادئ واضحة وصارمة للشرعية والقانون الدوليين ؛ من خلال عصبة الأمم والأمم المتحدة ، ومن خلال مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير ، بعد تجارب الاستعمار البغيضة وحروب النفوذ والسيطرة المريرة ، ومراحل اقتسام العالم وسلب ثرواته وما سبّبته للإنسانية من المآسي والآلام ، وإثرقيام حركات التحرر الوطني في تحقيق الاستقلال لمعظم دول العالم ( باستثناء فلسطين طبعاً ) ، خاصة بعد التبشير الليبرالي بعهد جديد ، بعد تفوق الليبرالية في الحرب الباردة ؛ فجاءت الحرب على العراق لتطيح بكل تلك الآمال والأوهام والوعود ، فهي حرب لم تفقد شرعيتها فقط بل هي حرب غير شرعية وغير عادلة ولاأخلاقية أساسا ً، وهي حرب لصوصية وقرصنة وسطو مسلح ؛ وقد أخذت طابع حرب استيطان جديد ، إذ ألغيت دولة أمة وشعب عن خريطة العالم ، والمسألة لاتتوقف عند حدود الحرب على العراق وسلب ثرواته وإذلال شعبه ، بل تتعدى إلى ما هو أبعد من ذلك ، لأن حملة الأضاليل والنفاق والكذب ، والدجل وتزوير الوقائع ، التي رافقتها والمستمرة ، تنبئ بخيانة الليبرالية الجديدة لكل قيمها ومبادئها ووعودها المعلنة ، بشخصي أكبر ممثليها : بريطانيا العظمى وأميركا الحرة ، وقد يكون هذا مؤشر على بؤس الليبرالية وتهافتها من خلال العودة إلى صيغة الاستعمار المباشر ، وتشريع إقامة الحق على مبدأ القوة ، وتبرير الوسائل بالغايات وهذا هدم لكل شرعية ، وإفساح بالمجال أمام شرعة الغاب ؛ وهو ما يتطلب الرد عليه بنفس الطريقة ، إذ ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وإ ن ما بني على باطل هو باطل ، مع كل ما ينتج عنه ، ويتحمّل مرتكبه كل التبعات الناجمة عنه اليسار العربي ومقاومة الغزو الأمبريالي - الاستعماري الجديد !!.
ا
ليسار العربي المأزوم .
كما طرحت الحرب على العراق واستمرار الماساة الفلسطينية المتجلية بالاحتلال الاستيطاني الصهيوني ، في ظل طرح ما سمي بخارطة الطريق ، أو خطة السلام ، المنوه بها على أنها مبادرة ستؤول إلى حل للصراع العربي مع الكيان الإسرائيلي ، وتوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة ، طرحت وبحدة من جديد مشكلة اليسار العربي أو ما اصطلح على تسميته تاريخياً بالقوى " الثورية العربية " ، لقد تأسس اليسار العربي تاريخياً على مبدأ الربط بين التغيير ، والتطور الاجتماعي والاقتصادي من جهة ، والتحرر الوطني من الهيمنة الاستعمارية الخارجية من الجهة الأخرى ، وعلى الرغم مما أصاب حركة التحرر الوطني في العالم وقوى اليسار عموماً من التفسخ والتشرذم إثر انهيار المنظومة الاشتراكية ، وفي مقدمها الاتحاد السوفياتي ، وعلى الرغم من الضبابية في الرؤية والتراجع عن الكثير من الطروحات والبرامج ، والأخذ بالكثير من الشعارات الديموقراطية والاصلاحية التي راجت بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين ، الذي اعتبر سقوطه بمثابة رمز ومؤشر لبداية عهد جديد ؛ عهد الانتصار المظفر للرأسمالية – الليبرالية ، وبداية حقبة جديدة في تطور البشرية ؛ تتسم بالعولمة على مختلف الأصعدة ، ( وبالمناسبة فإن أسياد العالم الجدد يلجأون كثيراً إلى هذه الرمزية لبيان حلول عهدهم الجديد كما حصل في إسقاط تمثال صدام حسين مثلاً وقبله محاصرة وقصف مقر السلطة الفلسطينية أو افتتاح مطاعم المكدونالد في بيروت الخ . ) على الرغم من كل ذلك فإن اليسار العربي بقي يتمتع بنفوذ ملحوظ وقاعدة شعبية واضحة الحضور، لولا الأخطاء الجسيمة وفقدان الرؤية والتركيز الذي أصاب الأحزاب اليسارية عموماً والشيوعية بصورة خاصة ( نذكر موقف الشيوعي العراقي من احتلال بلده ، والشيوعي اللبناني من الحركة الإستقلالية ) لقد تراجع كثيراً تأثير ودور اليسار عموماً والقوى ( الثورية ) منه خصوصاً لصالح القوى والتيارات الإصلاحية والليبرالية الجديدة ، ولصالح التيارات الدينية والحركات الإسلامية ، وطفت على السطح قوى السوق والمال والإعلام والثقافة المتسامحة ودعوات الحلول السلمية والتفاوضية - الحوارية من جهة ، وبالمقابل قوى التطرف الديني والمذهبي المرتيط بحركات أصولية أو بدول إقليمية أو بأجهزة مخابراتية تمتهن التخريب والإرهاب سبيلاً لتحقيق المصالح والغايات ؛ وغابت مفاهيم وظهرت مفاهيم جديدة في توصيف الأمور،.
نعم في الديموقراطية الحل ... ولكن .
إن أبرز القيم التي تدعي الليبرالية الجديدة أنها تحملها وتسعى إلى تعميمها هي الديموقراطية والحرية ، ولكن إذا دققنا قليلاً بهذه الشعارت والقوى التي تحملها فلسوف نكتشف بسهولة أنها خالية من المحتوى الاجتماعي العام وخالية من أية ضمانات للطبقات الدنيا في المجتمع ، وأنها تتضمن حرية مطلقة لقوى السوق والرأسمال الخاص والمعولم في السيطرة والتمدد الأخطبوطي دون أية روادع أو قيود ، ونحن نعلم أن من يمتلك المال يستطيع إدارة السياسة لا بل يستطيع شراء السياسة وتسخيرها في خدمة مصالحه كما يستطيع امتلاك القوة لفرض هيمنته ونفوذه وكسر وقمع أية معارضة ديموقراطية أو غير ديموقراطية تسعى للتصدي له أو الوقوف في وجه مشاريعه العامة والخاصة ، إن الديموقراطية كمفهوم عام وشامل تبقى كلاماً أجوف إذا لم تقترن بمحتوى محدد ، وبشروط صارمة لتطبيقها في مصلحة الغالبية الكبرى من المواطنين وخاصة تلك الشرائح الدنيا من العمال والفلاحين وصغار المنتجين والحرفيين وصغار التجار والكسبة وذوي المداخيل المحدودة ، من الطبقة الوسطى وما دونها ومن المهمشين والعاطلين عن العمل والمثقفين وسواهم ، إن الديموقراطية المجردة لا تدر ذهباً ولا فضة ولا تطعم عيشاً وكذلك هي الحرية المجردة من كل بعد أو محتوى تبقى كلاما ًأجوف إذا لم تقترن بتوزيع عادل للثروة ، ولم تقترن بقانون صارم للحقوق والواجبات ، والدليل على ذلك أن جهابذة الفكر التجديدي في المنظومة الإشتراكية السابقة قد تخلوا طوعاً عن كل الضبط الاجتماعي الذي كان قائماً واتجهوا نحو إعادة البناء والشفافية واقتصاد السوق والليبرالية الكاملة في السياسة والعمل فما كانت النتيجة الواقعية بعد كل ذلك ؟ ، تحولت بلدانهم إلى مرتع للعصابات ، فنهبت ودمرت مقدراتها دون حسيب ولا رقيب .
اليساري اليوم .
ثمة رؤيتان تتجاذبان هذا المفهوم اليوم ، "اليسار" ؛ وهو المفهوم الذي تسرب من الثورة الفرنسية : الرؤية الأولى : وهي الرؤية التقليدية التي تكرست في الوعي العام ، وفي أدوات التحليل والبحث والدراسات منذ الثورة البلشفية ، وأضفت الحقبة الستالينية عليها طابعاً من المذهبية العقائدية ؛ والتي يأخذ بها معظم الذين انضووا سابقاً أو مازالوا ، تحت لواء الأحزاب الشيوعية واليسارية والإشتراكية عموماً ، أو الإشتراكية الديموقراطية ، والتحالفات التي حكمت في بعض دول المنظومة الإشتراكية ؛ والمنظمات والجماعات المتطرفة من فوضوية وتروتسكية وماوية وامتداداتها داخل المنظمات الجماهيرية النقابية والطلابية والشبابية والنسائية وسواها من أنصار الثورة المستمرة والإنقلابات الثورية من المثقفين والإنتليجينسيا الراديكالية . هؤلاء الذين انفرط عقدهم بعد انهيار المنظومة الإشتراكية وأنظمة الحكم الشيوعية وارتداد بعضها الآخر والتحول نحو اقتصادات السوق والليبرالية ، وبعد التشتت الذي حل بحركات التحرر الوطني عموماً ، في ظل موجة العولمة الكاسحة. ينظر القسم الأكبر من هؤلاء الى فكرة اليسار واليساري قياساً إلى ماكان سائداً ، وما تكرس من انماط عمل وسلوك وطريقة تفكير منذ ظهور البيان الشيوعي في القرن التاسع عشر ؛ وخلاصة هذه الرؤية تقوم على أن الرأسمالية في طورها الأمبريالي الذي دخلته ، كما رآه وحلله ماركس ، قد أذن بحتمية نهايتها ؛ ودشن بداية الإنقلاب والتحول نحو الإشتراكية والشيوعية ، وبالتالي فاليساري هو الساعي بدأب ودون إبطاء لتحطيم جهاز الدولة المعنية التي يعيش في كنفها تهيئة للظروف المناسبة للإنتقال الثوري الذي سيتم عندما تنضج الظروف الموضوعية على يد الحزب أو التنظيم الثوري (اليساري) المسلح بالنظرية الثورية ، والذي يمثل العامل الذاتي وقد عمل على إنضاجه عبر التحالفات والنضالات المختلفة . فاليساري هنا ناقم ومعارض وهدام سلبي في كل مواقفه حيال بلده ونظامه القائم ، مفضلاً مصالح الثورة الأممية على المصالح الوطنية الضيقة أو القومية الشوفينبة ، مأخوذ بعداء موروث لأميركا منذ عقود الحرب الباردة . ومأساة هذا النوع من اليسار أنه لا يستطيع تحديد أهدافه اللاحقة إلاّ من وجهة نظر سلبية ، فيبقى متمسكاً بالتقليد متجهاً نحو الماضي متمنياً عودته ، ناقماً على الحاضر رافضاً إصلاحه لئلا يخدّر الجماهير فيؤخر النقمة والثورة ؛ هذا اليساري نجده ضعيفاً أمام رفض العنف والعمل المسلح حتى ولو لم يكن مقتنعاً به فهو يؤيده ويتمنى انتشاره ، لذلك وجدنا قسماً كبيراً من هذا اليسار يدور في فلك أكثر النظم تخلفاً ورجعية ، ومنسجماً في توجهاته مع قوى قروسطية ( حماس ، حزب الله ، الجهاد ) ، لأنها تمتهن العمل المسلح ، وتقدس العسكرة والتدمير . الرؤية الثانية : وهي الرؤية التي أخذ بها بعض الذين تعاطوا بانسجام مع الرؤية الجدلية للواقع الموضوعي ، ومع الرؤية العقلانية والعلمية المعاصرة ، وأستطيع أن أحدد بعض معالم هذا اليسار أو "اليساري" المفترض جديداً : أولاً : هو المتمتع بالحس النقدي في معالجة ودراسة الواقع ، بمعنى أنه يستطيع إعادة النظر بأفكاره و مسلماته التي اقتنع بها سابقاً ، ويملك الجرأة الكافية على طرح الأسئلة حول أكثر المسائل اليقينية ، فهو بهذا المعنى ديموقراطي في مواقفه لأنه يتقبل الحوار في كل المسائل . ثانياً : هو الذي يسعى للإصلاح في البيئة المحلية والبنية الإجتماعية والإقتصادية التي يعيش فيها لتأمين أكبر قدر من المكاسب والمصالح لبلده ومجتمعه . ثالثاً : هو الذي لا يسعى ابداً ، بل يرفض رفضاً قاطعاً أية مساعٍ للعودة إلى الوراء وتكريس التقليدي والبدائي والمتخلف من الأمور تحت أية ذريعة من الذرائع . رابعاً : هو لذي اكتشف أن صيغ العداء إنطلاقاً من تصنيفات تقليدية وموروثة عفا عليها الزمن هي تعسف ، وتعصب ، وأن الرأسمالية اليوم قد فقدت الكثير من سلبياتها في القرن التاسع عشر ، واكتسبت ميزات جديدة صادرت العديد من المطالب التي سيطرت في الماضي على الحركات العمالية ، فالتناقض داخل رأسمالية اليوم لم يعد تماماً كما كان في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، بين الطبقة العاملة من جهة والطبقة الراسمالية من الجهة الثانية ، بقدر ما أصبح بين المجتمع الصناعي ككل من جهة وإمكانات الواقع على تأمين متطلبات المجتمع ككل في فرص العمل والعيش للجميع . خاساً : هو الذي ينتصر للقضايا المشروعة بالوسائل الشرعية والمشروعة ، ويرفض الإبتزاز وارتهان الناس للمطامع المغلفة بالفكر الخرافي والوهمي أو الأسطوري – الماورائي المؤبد للتخلف والبدائية .
التاريخ ... التاريخ العنيد .
لو خرج ماركس رقم 2 اليوم ، لقرأ ماركس الأول وألقاه جانباً ولأعاد قراءة الواقع اليوم كما هو في تناقضاته وأشكالياته ، وبروح نقدية ، ولأصابه الكثير من الحزن على ما فعله لينين على أرض أكبر دول العالم ، ولندم على أفكاره ألأولى التي حاولت كسر عنق الواقع وتطويع حركة التاريخ ، ولهتف : ها هي تنبؤاتي عن الأممية تتحقق من خلال العولمة ، فيا شعوب العالم اتحدوا ضد التخلف والبدائية .

تعليقات

‏قال mohamad-philosophie
عزيزي عيسى
أهنئك على هذا الموقع الجديد كصفحة للحوار، وأشكرك على رسائل عديدة وصلتني منك
قرأت مقالتك فتكوّن لديّ انطباع بأنك قول الكثير الكثير في مقالة واحدة.
على العموم أوافقك الرأي حول المضمون، أما من حيث الشكل فأقترح أن تكون المقالة أقصر مع التركيز على فكرة أساسية واحدة مطروحة للنقاش والردود: كفكرة "اليساري بين الأمس واليوم" أو "المطلوب من اليساري اليوم". مع وضع عناوين فرعية للأفكار الأساسية كدليل للقارئ..
مع تحياتي لك وإلى اللقاء في مقالات لاحقة
محمد علي الحجيري

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في منهج الفلسفة والحضارات

العقل المستقيل والقطيعة المعرفية